سؤال: لماذا لم تنتشر الدعوة إلى الصوفية في صدر الإسلام، ولماذا
لم تظهر إلا بعد عهد الصحابة والتابعين، وهل جاءت بجديد أم هي امتداد لدعوة
الإسلام؟جواب: لم تكن هناك حاجة إلى هذه الدعوة زمن رسول الله
، لأن
الصحابة كانوا بسبب قربهم من الرسول
، أهل ورعٍ وتقوى، وكان الرسول
هو المرشد
والمزكي والمربي، فليست هناك حاجة لتلقينهم علوماً ترشدهم إلى أمور، هم قائمون
عليها، وهم القدوة الحسنة والمثل الأعلى بها. فالرجال الذين سبقوا التسمية باسم
(الصوفية) من الصحابة والتابعين، وإن لم يَتَسَمَّوا بالصوفية، كانوا في حقيقة
الأمر صوفيين، ولا يهمنا الاسم بقدر الجوهر والحقيقة. وإلا فما هي الصوفية إن لم
تكن تعني إلا أخلاق الصحابة والتابعين، الذين هم خير من أقبل على الله بالقلب
والروح في السر والعلن، في السراء والضراء، وهم الذين قاموا بفرائض الإسلام وعقائد
الإيمان، وتحققوا من مرتبة الإحسان، فاستنارت بصائرهم، وهم الذين تربوا على يدي
مرشد البشر وسيد الأنبياء
!.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود
قال: قال رسول الله
:
خير القرون قرني هذا،
فالذي يليه والذي يليه.
ثم
تقادم العهد واتسعت العلوم ودونت علوم التوحيد والحديث والفقه والتفسير والمنطق
والأُصول وغيرها من العلوم، التي بانتشارها واهتمام الناس بها وانفتاحهم على خيرات
الدنيا وزينتها، أخذ الجانب الروحي يتضاءل، مما دعا أهل الألباب والزهد لتدوين علوم
الإحسان، التي هي علوم الصوفية. ولا يُفهم من هذا أن ذلك كان احتجاجاً على العلوم
الأخرى كما يُظن، مثلما كان بعض أهل الكلام يحتجون على أهل الحديث، إنما هو استكمال
لحلقة الإسلام الذي عني بالمادة والروح والجسد والقلب. قال الشيخ زروق: (نسبة
التصوف في الدين نسبة الروح من الجسد، وإن هذا العلم لا يؤخذ من الأوراق وإنما يؤخذ
من أهل الأذواق، ولا يُنال بالقيل والقال، وإنما يؤخذ من خدمة الرجال وصحبة أهل
الكمال. وكما قالوا: والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح).
وهذا ابن خلدون
يقول في مقدمته: (وهذا العلم «التصوف» من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله
أن طريقة القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، هي
طريقة الحق والهداية؛ وأصلها العكوف على العبادة و الانقطاع إلى الله والإعراض عن
زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذةٍ ومالٍوجاهٍ، والانفراد
عن الخلق، والخلوة للعبادة وكان ذلك عامّاً في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال
على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختُصَّ
المقبلون على العبادة باسم الصوفية).
وفي فتوى للإمام الحافظ السيد محمد صديق
الغماري رحمه الله لما سُئِلَ عن أول من أسس التصوف أجاب: (أما أول من أسس الطريقة
فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي، في جملة ما أسس من الدين الإسلامي، إذ هي
بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي
بعدما
بيَّنها واحداً واحداً ديناً بقوله في حديث مسلم في كتاب الإيمان عن عمر بن الخطاب:
هذا جبريل عليه
السلام أتاكم يعلمكم دينكم فالإسلام طاعة وعبادة، والإيمان نور وعقيدة، والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة
أن تعبد الله كأنك تراه
فإن لم تكن تراه فإنه يراكوهذه
هي الصوفية، فمن أخل بهذا المقام (الإحسان) الذي هو الطريقة، فدينه ناقص بلا شك،
لتركه ركناً من أركانه. فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه، هو مقام الإحسان
بعد تصحيح الإسلام والإيمان).