التصوف الاسلامي هو أعلى قمة حامت حولها المحاولات العالمية للكمال الروحي ،
والمعارف اللدنية ، حامت حولها الجهود العالمية ، ولا أقول بلغتها ، لأن سبل الكمال
الروحي قد تعددت بتعدد الفلسفات وتعدد الوسائل والغايات .
فقد حاول قوم أن
يقتبسوا من نور هذا الكمال بالتصفية والتخلية ، كرجال الفلسفة الاشراقية .
وحاول
قوم أن ينالوه بالنسك والطهارة كزهاد اليوجا الهندية .
وحاول آخرون أن يبلغوه
بالاستغراق والتأمل ، كأصحاب المذاهب النظرية
والفلسفية .
وعدة هؤلاء وهؤلاء
لبلوغ هذا الكمال ، جهد بشري وسبل ابتدعوها ومذاهب اعتنقوها وعاشوا لها . وهي وإن
وصلت بهم إلى ألوان من هذا الكمال . إلا أنها ألوان مستعارة لا أصلية ، لأنها
منحرفة الغاية ، وإن استقامت الوسيلة . وقد ترقى أرواح هؤلاء وهؤلاء حتى تأتي بما
يشبه الإلهام ، وبما يشبه الخوارق والكرامات ، إلا أنها قد تضل وتشقى ، لأنها
اقتبست هداها من داخلها ، ولم تقتبس هداها من خالقها وموجدها .
أما التصوف
الإسلامي ، فقد تتشابه وسائله في الزهد والنسك والتصفية والتخلية والتأمل والطهارة
، مع هؤلاء وهؤلاء . ولكنه تشابه عرضي وتقارب شكلي . لأن التصوف ليس مذهباً من
مذاهب الفلسفة . وليس نحلة من نحل الزاهدين والمتأملين . وليس هدفه من تلك الوسائل
ما تهدف إليه الفلسفة من كمال عقلي وطاقة نظرية . وما ينشده الزهاد والنساك من
إطلاق لقوى الروح ، حتى تأتي بالعجائب والغرائب .
وإنما التصوف الإسلامي : كمال
في العبادة . وكمال في الطاعة . وكمال في
العبودية . هو محبة الله . وعمل على
رضاه ، وأمل في نجواه ، هو أنشودة يشترك فيها القلب والروح والحس والجوارح ، أنشودة
تسبح بحمد الله لا تفتر ولا تهدأ لأن لحنها دائم الحياة في القلب ، دائم الحياة في
الروح ، دائم الحياة في الإدراك والحس .
أنشودة تحيل الكون بأسره إلى آية ربانية
. يلمسها القلب كما تراها العين وتسمعها الأذن . كما تدركها الروح . فإذا بكل شيء
محراب . وإذا بكل شيء مصلى . وإذا بالصوفي لا يبرح المحراب ولا يفارق المصلى ،
أينما توجه بوجهه وسبح بفكره . إنه دائم مع الله فهو متأدب بأدب من أحس يقيناً في
كل لمحة بصر بأن الله معه يسمع ويرى .
وما يأت بعد ذلك من علم وفيض . وما يأت
بعد ذلك من خارقة أو كرامة ، وما يأت بعد ذلك من كمال روحي أو إشراق نفسي ، فهو
نافلة ، لأنه وسيلة لا غاية ، وسلم لا هدف .
فالمعارف الصوفية إذاً ثمرة الكمال
في العبادة ومنحة الفيض في الطاعة وأنوار القلب في محبته ونجواه . إنها حلى الطريق
، لا أساسه وروحه .
وإذاً فلا سبيل إلى إقامة صِلة من الصلاة بين التصوف
الإسلامي وبين أي لون من ألوان الروحانية العالمية .
ولا سبيل إلى المقارنة بين
المعارف الصوفية الإسلامية وبين المعارف الفلسفية والنظرية العقلية التي جرت على
وجه الأرض مع أعّنة التاريخ الإنساني .
فتلك المذاهب الفلسفية والعقلية ، قد
استمدت معارفها من التفوق العقلي تارة ومن الصفاء الروحي تارة أخرى ، أما التصوف
الإسلامي ، فمعارفه ، نَبْعُها ، عقيدته الإسلامية ، ومددها : فيض رباني داخل نطاق
تلك العقيدة القرآنية ، وبأسرار عبادتها ، وبذلك تحددت رسالة التصوف وعرفت ضوابطها
، بينما أعنت المعارف الروحانية الأخرى ، لا تقبض عليها يد تتحاكم إليها ، ولم ترسم
لها شريعة ترجع لها ولم تنبت معارفها في حقل إيماني سماوي يمنعها من النزوات
والاندفاعات .
التصوف الإسلامي آية ، سرها في الهدى القرآني والروحانية المحمدية
، وإني لأحسبه أحياناً آية كونية لأنه ضرورة لازمة لهذا الوجود وغاية من غايته
وحجتنا قوله تعالى :
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْأِنْسَ إِلّا ليَعْبُدونِ . والتصوف هو أكمل صور العبادات
لخير أمة أخرجت للناس . لأنه تطوع دائم للعبادات . تطوع بعد الفرائض والنوافل .
ولهذا لم يكن شرعة عامة بل كان ميزة خاصة لمن أخذ الكتاب بقوة واصطفاه الله واتاه
عزماً وعلمه من لدنه علماً .
وإذاً فلن نغالي إذا قلنا : أن قمة المعارف اللدنية
التي بلغتها الاجنحة الصوفية الإسلامية لم تبلغها بل لم تدن منها الأجنحة الأخرى .
لأنها قمة المحبة الربانية وهي قمة لا تصل إليها إلا الأجنحة المحمدية المؤمنة
العابدة .