الشيخ السيد يوسف السيد هاشم الرفاعي
بين يدي
الكتاب الحمد لله رب العالمين ،حمداً يوافي نعمه ، ويكافئ مزيده ، يا
ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت
كما أثنيت على نفسك ، فلك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا
.
اللهم صل وسلم على سيدنامحمدفي الأولين ، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد في
الآخرين وصل وسلم على سيدنا محمد في الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
وبعد :
فهذه مجموعة من آداب وقواعد تشكل في التعبير الأعجمي
المعاصر (بروتوكول) بين فيها مؤلفها
كيفية تعامل المريد والسالك لطريق الله مع شيخه في التربية ، ألفها
الشيخ الولي العارف بالله تعالى والداعي إليه سيدي محمد البوزيدي
.
ويعلم الله وحده كم
عانيت قبل الشروع في هذا التقديم ، وكم ماطلت وسوفت وتمنيت أن أغفى من كتابته لما
في ذلك من مشقة على النفس ، وتيبت من الخوض فيما لا ناقة لي فيه ولا جمل ، وذلك
لأمر بسيط وهو أني لست من أهل التصوف ، ولا من المريدين ، ولا السالكين ، ولا من
الصادقين ، بل ولا حتى من المحبين ، إنما رأسمالي وبضاعتي المزجاة هو شبهة المزجاة
محبة للسلف الصالح أهل العلم الحقيقي والمعرفة الحقة ، واليقين في الدين ، والزهد
في الدنيا ، فمن كان مثلي مشبوه المحبة هل يحق له أن يتكلم فيها ! وأني لي أن أخوض
في الكلام عن قوم اختصهم الله بالمعرفة والعلم والعمل ، وخلاهم من كل خلق دني ،
وحلاهم بكل خلق حميد كريم ، واصطفاهم لنفسه.
وتعود صعوبة التقديم لأسباب كثيرة ،
أهمها أن في هذا التقديم خوضاً في مسائل التصوف علماً وعملاً ، وإجابة على بعض
الافتراءات والمسائل والإشكالات التي تثار بين الفينة والفينة ، كقول بعضهم : هل
يحتاج الإسلام إلى تصوف؟
وإذا ما كانت ثمة حاجة للتصوف فما الذي أضافه التصوف
إلى الإسلام من جديد ؟
وغير ذلك من الأسئلة التي يثيرها أعداء الصوفية والتصوف
بشكل عام ، لا سيما ونحن نعيش في وقت ازدادت فيه الهجمة الشرسة على هذه الطريقة
الشريفة المنيفة من أناس يدعون العلم ، وربما يكون منهم من أصاب بعض درجات العلم
بنيله أجازات أكاديمية كـ(الدكتوراة) في بعض فروع العلم الشرعي ، فظن نفسه الإمام
أحمد ، أو الشافعي ،أومالكاً،أو أباحنيفة
، ونصب من شخصه مفتياً أو قاضياً ، ثم أجاز لنفسه الاعتراض على سادة
الأمة وقادتها، وأخذ يترنم بمقولة أحدهم :هم رجال ونحن رجال!" وهي مقولة حق أريد
بها باطل ، خاصة في ايامنا النحسات ، وهي وإن كان قائلها أحد الأئمة الأعلام في
وقته ، لكنها استغلت أسوأ استغلال من بعض مدعي العلم في وقتنا هذا ، وسنأتي على دحض
المدعين بها في ثنايا هذا الكتاب المبارك وبيان أنه لا مجال للشبه ولا القياس بين
هؤلاء وأولئك .
حقيقة التصوف أما التصوف
وحقيقته ، وأصوله ، وفروعة ، وموضوعاته ، وأخلاقه ، وسلوكياته.
فقد عُرف منذ
بدء الإسلام ، ومن قال غير ذلك فقد أخطأ من حيث التاريخ ، والعلم ، ولا حجة له ولا
سند إلا اتباع قول المخالفين المعاندين للتصوف ، ويكون بقوله هذا قد قلب خطأه إلى
خطيئة وكان ذلك جرماً في حق الإسلام وأئمته العظام ، لأنه ما من إمام من أئمة
المسلمين المعتبرين إلا وكان من أبز سماته ، وافضل خصاله ، وأحسن شمائله أنه (صوفي)
كما ورد في تراجمهم ، وارجع إن شئت إلى كتاب التراجم والأعلام وطبقات القوم
تجد ذلك واضحاً بيناً ، فما كانت سمة
(التصوف) أو :(صوفي) سمة جرح أو صفة ذم في يوم من أيام السلف الصالح ، إلى أن جاء
في أيامناهذه بعض من قلب الموازين ، وتجرأ على حرمات خير أمة أخرجت للناس ، وافرطوا
في عداوة أهل الله من الأولياء والصالحين ، فشغلوا ساعاتهم وليليهم وأيامهم في
التأليف والنقد والافتراء والتشويه والتجريح ، فنفروا الناس من هذه الطريقة الشريفة
وأهلها ، كل ذلك بحجة سد الذرائع،تلك القاعدة المظلومة ، أو النهي عن المنكر ،
ومحاربة البدعة ، وبحجة الخوف على الناس من الانتكاس والعودة إلى الشرك بعد أن
استقر الإيمان والتوحيد في قلوب أهل التوحيد من أمة الإسلام ، مع العلم أن كل ما
يلاحظه أولئك القوم على العامة من سلوكيات ربما يكون بعضها خطأ غير مقصود ، واغلب
هذه السلوكيات أبعد شيء عن التهويل بالشرك والوثنية والكفر والردة أو أن تكون سبباً
لإهدار الدماء – أعني دماء المسلمين الموحدين من أهل لا إله إلا الله ، وها قد مر
على تلك الأمور والعادات مئات السنين عاش فيها آلاف الأئمة والعلماء الثقات فما كفر
أحد منهم أحداً لمجرد شبهة أو خطأ غير مقصود ، إلا أن يكون كفراً بواحاً فحكمه
معروف لم يختلف على ذلك اثنان ، أما أن توزع شهادات الكفر والابتداع والضلال على كل
من هب ودب ومن عباد الله ، دون تحقق وتثبت ، ولا تربى مريدوهم على ذلك الخلق الذميم
العديب من الافتراء على الأمة خاصتهم وعامتهم لمجرد أن أخطأ واحد منهم من غير قصد
في كلمة أو سلوك لم يجد عالماً يقومه له ، أو يرده فيه إلى الصواب بالحكمة والموعظة
الحسنة .
والتصوف من حيث العبادة والخلق بأوسع معانيهما موجود ومشهود في كتاب
الله الكريم ، وسنة نبي الإسلام العظيم
، شأنه في هذا شأن بقية علوم الشريعة
.
وإذا لم تكن لفظه (التصوف) قد استعملت في ذاك الوقت ، فقد كانت العبادات
والأخلاق ، وتهذيب النفس وتربيتها ، وتخليتها من كل خلق لئيم ذميم ، وتحليتها بكل
خلق جميل كريم ، كل هذه الأمور جاءت في دين الله
، وورد بها الكتاب ، وجاءت بها سنة نبيه
.
فهذه
الأخلاق والعادات والسلوكيات هي التي أطلق الناس عليها اسم ( التصوف ) فالاسم من
هذه الحيثية لا شك حادثٌ .
أما "مادة" الكلمة ومضمونها ومعانيها ومحتواها فهي
كما قدمنا سابقاً قديمة قِدَمَ الكتاب والسنة ، وهي بهذا كبقية العلوم سواء بسواء .
ولم يكن هذا الأمر بدعاً في يوم من الأيام ، ومعلوم أنه لم يكن في ذاك العهد –
أي العهد النبوي ، والقرون الأولى التي بعده – لم يكن فيها علم باسم (علم الفقه
وأصوله) ، ولا عرف علم باسم (علم التفسير) وعلم باسم (علم النحو ) ولا غير هذا ولا
ذاك من بقية العلوم الشرعية وعلوم الآله ، لكن تلك المادة كانت موجودة بين ثنايا
الكتاب الكريم والسنة المطهرة ، ولما دونت العلوم ورسمت قواعدها ومصطلحاتها ، أطلق
عليها اسمها حسبما يوافق تلك القواعد والمصطلحات .
فتقول : لماذا تُنكر تسمية
(التصوف) ولا تُنكر تسمية بقية علوم الشريعة من فقه وتفسير ومصطلح حديث ونحو الخ ،
ولماذا تُنكر تسمية (التصوف) ولا تُنكر تسمية (التسلف) أو(التمسلف) نسبة إلى
(السلف). إنه حقاً من عجائب الأمور !
يقول العلامة ابن الجزظي – وهو من مراجع
أهل الإنكار والعناد لطريق التصوف – أنبأنا محمد بن ناصر : عن ابي إسحاق إبراهيم بن
سعد الحبال ، قال : قال أبو محمد بن سعيد الحافظ " "سألت وليد بن القاسم : إلى اي
شيء يُنسب الصوفي؟
فقال: كان قوم على دين إبراهيم في الجاهلية يُقال لهم : صوفة
، انقطعوا إلى الله عز وجل ، وقطنوا الكعبة ، فمن شُبه بهم فهم الصوفية" .
وجاء
في "المعجم الوسيط " مادة (صوف) : "صوف فلاناً: جعله من الصوفية : وتصوف فلان : صار
من الصوفية " .
و (التصوف) طريقة سلوكية قوامها التقشف والتحلي بالفضائل ، لتزكو
النفس وتسمو الروح .
و(علم التصوف) : مجموعة المبادئ التي يعتقدها المتصوفة
والآداب التي يتأدبون بها ، في مجتمعاتهم وخلواتهم .
و(الصوفي) من يتبع طريقة
(التصوف) .
وهكذا يتأكد لنا أن هذه الكلمة عربية قديمة، وردت فى اللغة ومعاجمها،
فمن أرجعها الي ( صوفيا) أو ( سوفيا ) أو غير ذلك من كلمات الأعاجم، أو الى
اليونانية، فقد أخطأ خطأ فادحاً.
ومن ادعى ان هذه الطريقة أو هذه الكلمة بدعة
محدثة أو ضلالة فقد كان أشد جهلاً وأنحرافاً، فالتصوف كما عرفناه : أخلاق، وعبادة ،
وجهاد وتربية، وسلوك ، وتخلية، وتحلية ، ورياضة ، وسياسة وعلم ، وإحسان وكل ما فيه
مبثوث فى آيات القرآن الحكيم، ودين من هذا الدين ، بل هو لب هذا الدين .
اسمع
معى يا أخى إلى ما قاله المرحوم عباس محمود العقاد – وهو ليس من أهل التصوف – يقول
فى كتابه " الفلسفة القرآنية "
"لكن التصوف فى الحقيقة غير دخيل في العقيدة
الاسلامية ، لانه – كما قلنا فى كتابنا " أثر العرب فى الحضارة الاوربية "–مبثوث فى
آيات القرآن الكريم، مستكن بأصوله فى عقائده الصريحة ، فالمسلم يقرأ فى كتابه
أن:
ليس كمثله شئ
وهو السميع البصير [ الشورى:11
] ، فيقرأ خلاصة العلم الذي يعلمه دارس الحكمة الإلهية.
ويقرأفى كتابه:
ففرواإلى الله إنى لكم
منه نذير مبين[الذاريات:50]
فيعلم ما يعلمه تلاميذ المتصوفة البوذيين حين يؤمنون بأن ملابسة العلم تكدر سعادة
الروح، وأن الفرار إلى الله هو باب النجاه، فالمسلم الذي يقرأ هذه الايات هو مطبوع
على التصوف والبحث عن خفايا الاثار ودقائق الحكمة".
إسلام
، أيمان ، إحسان والدين كما ورد فى الحديث الشريف المشهور بحديث جبريل
لما جاء يعلم الصحابة دينهم ، ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
أولاً : الإسلام: وهو
قيام البدن بوظائف الاحكام .
ثانياً: الإيمان: وهو قيام القلب بوظائف الاستسلام
.
وثالثاً: الإحسان: وهو قيام الروح بمشاهدة الملك العلام .
وإن من أكثر من
يحارب الروح ويهاجمه إنما يقف عند المرتبة الاولى من الدين وهي مرحلة الحس وأعضاء
البدن وقليل منهم من يصل إلى المرحلة الثانية وهى وظيفة القلب .
أما المرحلة
الثالثة وهى مرتبة الإحسان المتعلقة بالمشاهدة الروحانية فهيهات هيهات أن يصل إليها
إلا من رحمه الله وانتشله من حمأة الإنكار والتنكر لتلك الحقائق السامية على يد شيخ
من شيوخ التربية الصاديقين ، وجمعه مع رجال الله المخلصين، أو أدخله فى حضرة أهل
الله العارفين ، عندها يفوز بقرب الوصال، وينعم بخمرة المشاهدة لأوصاف الكمال،
ويذوق بعضا مما ذاقة أولئك الرجال .
وإن من أعجب العجب من بعض من خلف فى هذه
الأمه وأدعى أنه من أتباع السلف أنه يقبل أوصاف الشكر ، والصبر، والورع، والزهد،
والذكر ، والفكر، من كتب المتمسلفة، وينكرها إذا ما وردت فى كتب ساداتنا الصوفية،
ويعمل جاهداً فى النقد والتنفيذ والافتراء وتلوين الكلام ، وتشويه المقاصد، وقلب
المعاني.
وأي جرم اقترفه ساداتنا الصوفية فى حضهم على أتخاذ شيخ تربية عالم عارف
مخلص، ناصح أمين على شرح الله، يرقى المريد ويربيه ويدله على الطريق الصحيح فى
السلوك الى الله ، وياخذ بيده الى السلوك الاقوم في الوصول إليه سبحانه، أي جرم
اقترفه أولئك السادة حتى يشنع عليهم ، وتشن عليهم تلك الهجمة الشرسة .
قول ابن عطاء الله السكندري في التصوف يقول أبن عطاء الله
السكندرى
ونفعنا به،
فى "حكمه" فى شأن الصحبة:
"لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدللك على الله مقاله،
ربما كنت مسيئاً فأراك الإحسان منك صحبتك إلى من أسوأ حالاً منك".
ويقول :"ولأن
تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه، فأي علم لعلم
يرضى عن نفسه، وأي جهل لجهل لا يرضى عن نفسه؟.
ويقول :"من رأيته مجيبا عن كل ما
سئل ، ومعبراً عن كل ما شهد ، وذاكراً كل ما علم؛ فأستدل بذلك على وجود
جهله".
ويقول :" تسبق أنوار الحكماء أقوالهم ، فحيث صار التنوير وصل
التعبير".
ويقول :" كل كلام يبرز وعليه كسوق القلب الذي منه برز".
ويقول :"من
أذن له فى التعبير فهمت فى مسامع الخلق عبارته، وجليت إليهم إشارته".
ويقول
"ربما برزت الحقائق مكسوفة الانوار؛ إذا لم يؤذن لك فيها الإظهار".
ويقول :"
عبارتهم إما لفيضان وجد، أو لقصد هداية مريد، فالأول حال السالكين، والثانى حال
أرباب المكنة والمحققين، والعبارة قوت لعائلة المستمعين وليس لك إلا ما أنت له آكل
"
ويقول:" ربما عبر عن مقام من استشرف عليه، وربما عبر عنه من وصل إليه ، وذلك
يلتبس إلا على صاحب البصيرة".
وكل ذلك تعبير منه
وحض وإظهار لضرورة وجود المربى الصالح الناصح
، وبيان لأهمية ومهمة الشيخ والمربي والمرقي فى الطريق إلى الله
.
يقول أحد العارفين : " لولا المربى ما
عرفت ربي" وعن بعض العارفين أيضاً: " لولا المرقي ما عرفت رقي"؛ أي:
عبوديتى.
بعض أحوال أهل التصوف أنظر معي يا أخي
إلى بعض أحوال أهل التصوف الحق الذي ندعو إلية وندافع عنه ونتمسك به ونسأل الله أن
نلقاه عليه علما وحالا وذوقا، انظر إلى حال أحد ساداتنا الصوفية لما أن دخل على أحد
الخلفاء فحدثه ، فأجازة الخليفة – على عادة الخلفاء بمكافأتهم لضيوفهم – بما لم
يكافئ بمثله أحداً قبله ، فأعتذر الصوفى عن قبول عطية الخليفة ، فأندهش الخليفة
قائلاً له: ما أشد زهدك! .
قال الصوفي : بل أنت أزهد مني يا أمير المؤمنين
!.
قال : كيف؟
قال: لأنني أزهد فى الدنيا، وهى لا شئ، وأنت تزهد في الاخرة،
وهي كل شئ".
فالزهد كما تعلمه عند ساداتنا الصوفية، أن تكون الدنيا فى يده لا فى
قلبه.
وعلى هذا الطريق سار كل صوفي من أهل التصوف الحقيقيين، كان الكثير منهم
أصحاب تجارات ، ومزارع ، وأموال ، وقصور ، لكن ما كان كل هذا أن يحجبهم عن ربهم ،
ولا أن تفتنهم الدنيا عن طريق الاخرة، وأمثلة هذا كثير منذ عصر الصحابه
إلى يومنا هذا لو ذهبنا لنعددهم لملأنا
المجلدات، فأنظر سيرتهم
فى كتب الطبقات
والتراجم، ترى فيها العجب العجاب ، ولو أن الراوي كان ثقة لقلنا إن بعضها من أوهام
الخيال .
ودع عنك أن شئت كل من زهد ممن ذكرنا ومن عرفنا من ساداتنا الصوفية مع
حفظ مقامهم، أليس فى سيد الزاهدين
أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ؟
أما كفانا به أسوة
.
ضرورة اقتداء
المريد بشيخ وقديما قالوا: " من لا شيخ له فشيخه الشيطان "، وهو معنى
صحيح صحيح صحيح ، كما سنبين لك يا أخي.
إن هذا القول الآنف لم يصدر إلا عن أصل
صحيح فى شريعة الله ، وسنة رسول الله
، وبعد ذلك أقرته طبيعة الأشياء ، ثم تجربة
الممارسة والواقع.
أما ما جاء فى الشريعة الغراء فقد قال الله
فى كتابه العزيز:
فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ النحل :43] ،
الرحمن فسئل به
خبيراً[ فاطر : 14]،
أولئك الذين هدى الله
فبهداهم اقتده [الانعام:90]،
وأتبع سبيل من أناب
إلى[ لقمان :15]
قد كانت لكم أسوه حسنة
في إبراهيم والذين معه [الممتحنة:4] .
وقال سيدنا رسول الله
فى الحديث الثابت الذي رواه ابن ماجه
وأبوداود والدارامي والدارقطني:
هلا سألوا، فإن دواء العي السؤالإذا فلا بد من هادالى الطريق وقدوة، سؤول ذى ذكر، خبير
بوسيلة العودةإلى الله ، والفرار والهجرة إليه
.
ألم تر إلى سيدنا موسى
كيف طلب المرشد ليتبعه كما جاء فى سورة
الكهف ، وكيف كان أدب سيدنا موسى مع مرشده؟ّ.
وفى حياتنا العملية إذا كان لا بد
لكل طالب يريد حفظ كتاب الله من مقرئ خبير بأحكام التجويد يقوم له لسانه، ويبين له
أحكام التلاوة، وصحة الأداء ، ولو ترك هذا الطالب ونفسه لاستحال عليه الأمر وتعذر
عليه أن يحصل حق التلاوة وصحة الأداء ، وبالتالى اضطربت معه مفاهيم الآيات ، وغابت
الأحكام قل مثل ذلك في كل علم من علوم الشريعة، واللغة ، وكل علم من علوم الدنيا
سواء كانت عقلية، أم بدنية جسمانية عملية.
كما نلحظ هذا الأمر فى جميع الحرف
والصناعات والمهن، وما شابهها،مهما علت أو دنت ، نلحظ أنه لا بد لمن يريد ممارستها
وتعلمها من معلم متمرس ، خبير بتلك المهنة أو الصناعة، أو الحرفة، هو هنا بمقام "
الشيخ" لتلك المهنة، وكم عرفنا فى بلادنا فى الشام وغيرها من البلدان مصطلح: شيخ
الصاغة وشيخ النجارين، وشيخ الحدادين،.... إلخ ذلك من أسماء المهن ، ما كان يسمح
لأحد بممارسة تلك المهنة إلا إن إذن له "شيخ" تلك المهنة بممارستها بعد التدرب
والتريض عليها عند معلم معترف به بين أهل تلك الصناعة.
وهو عند ساداتنا الصوفية
ما يسمى بـ"الإذن" سواء فى التلقين أو التربية، أوالتزكية أو التعليم.
فلماذا
نقبل فى أعمال الدنيا وممارساتها " الرخصة" فى ممارسة المهنة ، و"الإذن" فى
تعليمها، ولا نقبل فى الدين وسلوك الطريق إلى الله "الإذن" في التربية وتلقين الذكر
، وتعليم الشرع الشريف !.
وإذا كان في العلوم الدنيوية كالطب والهندسة والطيران
والكيمياء وغيرها.. لا بد لطالبها من تعلمها على يد أستاذ مجاز من أعلى الهيئات
والمراجع العملية يأذن له بتعليم تلك المهنة أو ذلك الاختصاص.
فإذا كان فى
العلوم الدنيوية وضرر الجهل بها مؤقت ينتهي بانتهاء الدنيا مهما طالت، فما بالك بطب
القلوب ، وهندسة الطريق إلى الله ، والطيران إلى حضرة الحق ، وكيمياء الروح وسائر
علوم الآخرة التي تبقى بقاء الآخرة ؟!.
من هنا كان لا بد للمريد والسالك فى طريق
الله
من شيخ – تقي نقي صالح عارف بالله
تعالى وبشرع الله – يربي المريد، وإمام يرشده ويوجهه، ويسدد خطاه، ويكشف له أحابيل
الشيطان فى عباداته ومعاملاته ، وخطراته النفسية، وإراداته القلبية، والواردات التي
قد تكون خطراً على صاحبها أكثر من الكفر الصريح.
وفي سائر كتب سلفنا الصلح
المعتبرين من هذه الأمة نرى حرص كل واحد منهم على تسجيل أخذه وتلقيه عن كبار
شيوخهم، كابراً عن كابر، بالإجازة الشريفة ، والثبت المحكم ، سواء كان ذلك فى
العلوم، أو في تلقي البيعة الصوفية الشريفة ، واتصال السند .
وقديما قالوا: " لا
تأخذ العلم من صحفي، ولا القرآن عن مصحفي".
فالصحفي: هو الذي يجمع محصوله من
الصحف وحدها دون مرشد، والمصحفي: من قرأ القرآن وحده من غير شيخ ، وهذا مجرح عند
أهل العلم .
وإن لالتقاء روح الطالب والاستاذ وتبادل الود وأنسجام الإرادة ،
وأندماج الشخصيتين بالحب والتسامي والإخلاص لله في القصد،كل ذلك له كبرالأثر الروحي
والنفسي كماهومقرر عندأهل العلم فى القديم والحديث ،وعندمايكون السند متصلا يكون من
ورائه سر مجرب،يسميه ساداتناالصوفية بـ"بركة السند"،ألا ترى قوله
وداعيا إلى الله بإذنه [الأحزاب: 46] تأمل ، فمن هنا تبدأ البركة ثم تتسلسل لمن
أتصل بها.
أدب المريد لشيخه وأما أدب المريد
لشيخه وأحترامه له: فله أصل أصيل جاء فى قول النبي
ليس منا من لم يوقر
كبيرنا ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه، رواه الترمذي بسنده عن سيدنا عبد الله بن عمر ، وورد
أيضاً بألفاظ أخرى .
وأدب الصحابة
مع
سيدنا رسول الله
ورجله – تأمل هذا جيداً كما هو ثابت فى الاحاديث الصحيحة ، وكانوا
يحملون عنه حذاءه ورداءه الشريفين، ولا يتقدمون عليه ، ولا يقومون بين يديه.
كما
كانوا يتبركون بآثاره الشريفة- حتى أنهم كانوا يتبركون بنخامه، ويتسابقون لتلقيها
ومسح وجوههم بها تبركاً بها- كما جاء فى كتب السيرة النبوية المطهرة، والشمائل
المصطفوية والخصائص، وحياة وآداب الصحابة
مع الحبيب الأعظم والرسول الأكرم
، وليس فى
ذلك خصوصية، فالأدب علم، والتصوف أدب مع الله ومع الناس.
فأحترام التابع للمتبوع
، والصغير للكبير ، أصل إسلامي توحيدي لا خلاف عليه ،ألم تقرأ كيف كان أدب موسى مع
الخضر عليهما الصلاة والسلام ؟ وكيف كان فتى موسى " يوشع" يحمل عن موسى متاعه، وكيف
أمرنا الإسلام باتخاذ الأمير وطاعته ، مهما قل العدد.
ولا تظن يا أخي الكريم أن
هذا الكلام يصدق على كل من سمى نفسه شيخاً، أبداً فأن المراد بالشيخ عند ساداتنا
الصوفية
هو شيخ التربية التقي النقي،
الصالح، العارف بالله تعالى، الذي تخلص من رعونات النفس، وترقى هو نفسه على يد شيخ
مرب، عارف عالم ناصح ، وهكذا إلى سيدنا رسول الله
الذي قال عن
نفسه: "أدبنى ربي فأحسن تأديبي" ، وهذه هى السلسلة الطاهرة الطيبة ، والشريفة
المباركة التي يتكلم عنها ساداتنا ويامرون المريد إذا أراد الوصول لا بد أن يكون
بين يدي أحدهم " كالميت بين يدي المغسل" أما تراه يقلبه كما يشاء بقصد تطهيره، ثم
تكفينه، وتهيئه لدخول حضرة الله .
وهكذا المريض يسلم نفسه للشيخ – شيخ تربيته –
ليقوم له أعوجاج نفسه ، ويروض له أخلاقه، ويعالج أمراض قلبه، ويهيأه لدخول حضرة ربه
سليماً معافى، هذا هو الشيخ المطلوب ، وهكذا ينبغي أن يكون المريد مع شيخ تربيته،
أداباً وأحتراماً، لا تقديسا وعبادة- وحاشاهم أن يخطر ببال أحدهم سواء المريد أو
الشيخ، حاشاهم أن يخطر ببال أحدهم غير الأداب والاحترام، أما إذا انحرف الاحترام
إلى التقديس فأمر مرفوض قولاً وأحدأ وما وصل من وصل إلا بالأداب، وما انقطع من
انقطع إلا بترك الأداب ، سواء كان هذا الادب مع الله ،ورسوله
، أو مع
شيوخه المربين، الصالحين العارفين الموصلين إلى حضرة الله
.
نصيحة أخيرة وأخيراً أعلم ياأخي أنه لا يغني فى السلوك إلى حضرة علام الغيوب مجرد العلم ،
ولا توصل إليها دروب الفلسفة ، فالعلم والفلسفة أعمال عقلية ، وهذه التجربه من
الاعمال القلبية الوجدانية ، وشتان ما بينهما ، غير أن التعبيرات الصوفية إذا عولجت
بالاحسان والتعمق ، والمعاناه والتذوق ، كانت قادرة على تغيير الباطن الذي به يتغير
الظاهر، فيولد الإنسان ولادة جديدة ، كلها إشراق وحب وبركة وإنتاج، هكذا قال
الشيوخ.
وفي تجربه حجة الاسلام الإمام الغزالي
خير شاهد بينه فى كتابه " المنقذ من الضلال"
فأرجع اليه إن شئت تر أمامك شاهد عيان ، وخبيراً مجرباً عارك العلم والحياة، وعرف
خباياهما ، ثم قدم لك خلاصة تجربته فى أوضح بيان، فجزاه الله عنا وعن الإسلام
والمسلمين خير الجزاء، ونفعنا به وبالصالحين فى الدارين بجاه سيدنا رسول الله
.
أما
مجرد قراءة كتب التصوف دون مجالسة الشيوخ العارفين بخبايا النفوس ، وأمراض القلوب ،
ومصاحبتهم ، والتربى على أيديهم ، فمجرد هذه القراءة بلا معاناه، فهي لا تعدو كونها
متعه ذهنية وثقافة عقلية ، بل قد تشارك فيها النفس الأمارة بالسوء، فتكون طريقا الى
الضلالة طردا وعكسا كما هو مشاهد ومجرب عند الكثيرين الذين أستغلوا عن ملاقاة
الشيوخ ، فاتخذوا من قراءاتهم مطايا لنفوسهم فى جلب الدنيا، وإياك وهذه المزالق ،
فتقع فى الهاوية ويأتي عليك يوم – لا قدر الله تتمنى فيه أن تكون قد لقيت ربك أمياً
عاميأً تقرأ كتاباً ، ولم تدر مسألة علم تعلمتها . كل هذا بسبب فتنة العلم ، وعدم
الأخلاص الذي لا ينال بالقراءة والمذاكرة ، وإنما ينال بمجالسة المخلصين ، ولقاء
الصالحين العارفين ، المحببين المتقين، العاشقين لله تعالى ، وجناب سيدنا رسول
الله
،
فهؤلاء هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، وغير هذا الطريق فهى مهواه مضيعة للدين
والعمر ، فقد قال ساداتنا " لم ينال المشاهدة من ترك المجاهدة" أى : مجاهدة النفس
ومحاربتها ورياضتها ، وتخليتها من كل خلق ذميم ، وتحليتها بكل خلق كريم والوصول إلى
هذا دون شيخ التربية : السماء أقرب إليه منه ، ولعن الله من كذب .
فالشيخ دليل ،
ومن لم يسع لم يصل ، ومن لم يلتمس المعارج لا يتسامى ولا يرتقى، ومن لم يتحرك لم
ينتقل ، ومن أعتمد على ما عنده وحده أغتر وتاه ، وضل وأضل.
وفى هذا يقول سيدي
الإمام الشيخ محمد ذكى أبراهيم رائد العشيرة المحمدية
فى قصيدة له:
يقول : هل أتخاذ الشيخ محتوم
على القاصد؟
فقلت: وهل تربى قط مولود بلا والد؟
وهل يتم اليتيم كفاه فاستغنى
عن الرافد؟
وهل أبصرت مكفوفا ولا يحـتاج للقائد
وهل علما وهل فن بغير المرشد
الراشد؟
وكيف يسير فى الصحرا غريب أعزل وافد ؟
وباب الله مــفتوح ولكن من هو
الرائد؟
تأمل ما أتى ( موسى)وقصته مع العابد
تأمل بعثة ( الهادي)ففيها الشاهد
الخالد
فاللهم إنا نضرع إليك ، ونتوسل بجاه سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد
وآل بيته الكرام ، وصحابته العظام ، أن توفقنا لصالح الاعمال وتتقبلها منا ،
وتستعملنا فى مرضاتك يا رب العالمين ، وأن لا تحرمنا بكرة شيوخنا، وساداتنا أهل
الله العارفين ، ونسألك سؤال المضطرين أن تورثنا أسراهم ، وتنفعنا بهم وببركاتهم
وأنوارهم وتمدنا بإمداداتهم في الحياة وبعد الممات، وأن تغفر لنا وترحمنا بكل ولي
لك أواب أواه يا رب العالمين.
وصل اللهم وسلم بجلالك وجمالك وكمالك على سيد
الوجود حبيبنا محمد وآله ، عدد خلقك ورضاك نفسك وزنة عرشك كلما ذكرك وذكره
الذاكرون، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون .