[center]
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سر أرق من النسـيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها فغدوت معروفا وكنت منكرا
فدهشـت بين جماله وجلاله وغدا لسان الحال عني مخبرا
ابن الفارض
بشكل مثير وبادخ، تنكشف الأنثى في حقل الكتابة الصوفية كذات حالمة، وحلم مشخص، ينكشف قمقم التجربة التي لا تؤخذ من الأوراق وإنما هي وجدان وأشواق كما قال ابن عجيبة الحسني، عن فتنة العري، وسحر التستر، يقف الدارس حائرا منشدها أمام الحضور الكرنفالي للمرأة في الديوان الصوفي فلا يملك إلا أن يلبس العري كساء الرمز، ويجرد السحر من لباسه ليعود إلى مجاله حيث جمال المعبد وجلال المعبود.
في البد كانت المرأة:
يرى ابن عربي فيما يشبه لذة الاعتراف الصوفي بالارتباط المشيمي بالأنثى أن "المرأة صورة النفس، والرجل صورة الروح، فكما أن النفس جزء من الروح، فإن التعين النفسي أحد التعينات الداخلة تحت التعين الأول الروحي الذي هو آدام الحقيقي، وتنزل من تنزلاته، فالمرأة في الحقيقة جزء من الرجل، وكل جزء دليل على أصله، فالمرأة دليل على الرجل".
إن الشوق والحنين والتعلق والافتتان هي الروابط الرئيسية التي شدت الصوفي إلى المرأة التي ترك غيابها عن ناظره مجالا للحلم وللخيال الخلاق، وهو الخيال الذي شكل المرأة من الحجارة المكومة في تجارب الغزل، خاصة منه العذري، يقول ابن الفارض في إحدى مقاماته العشقية:
من لي بإتلاف روحي في هوى رشــإ حلو الشمائل بالأرواح ممتزج
من مات فيه غرامـا عاش مرتقيا ما بين أهل الهوى، في أرفع الدرج
محجب، لو سرى فـي مثل طرته أغنته غرته الغرا عن السرج
وإن ضللت بلل مـن ذوائـبه أهدى لعيني الهدى صبح من البلج
وإن تنفس قال الـمسك معترفا لعارفي طيبه، من نشره أرجى
فبهاء الكلمات وإشراق العبارات وتوهج العواطف وسخاؤها هي المقولات الكبرى في هذا المقطع الشعري الذي –وإن- استرفد من تجارب شعرية سابقة، واستنار بفضل من قبسها، فإنه استفرد بالإلحاح على ثنائية النور والظلمة، المحيلة على قضية الخير والشر الأخلاقية، فالمرأة حسب الشاعر جامعة بين قوانين الحياة ونواميسها، وما تجمع هذه المتناقضات في المرأة إلا دلالة على تعالق جميع القيم لتشكيل الجمال الأنثوي الذي هام به الشاعر الصوفي.
أما الششتري (668) فإنه يلح على ثنائية الهجر والوصال، وهي الثنائية التي كثيرا ما شدت الشاعر العربي بأجوائها المتخمة بالظمإ والغلة والحرمان، والطافحة أيضا بمعاني الارتواء والامتلاء والتشرب، يقول أبو الحسن الششتري في إحدى تحليقاته الإبداعية:
تعشقتكم طفلا ولم أدر ما الهوى فلا تقتلوني أنتم فيعلم
جرحتم فؤادي بالقطيعة والجفا فيا ليتكم داويتم ما قطعتم
إنها قصيدة –يقول سليمان العطار- من قصائد المضربين تقتبس منهم وتحاكيهم، وإنما في أصالة. لكني أقول إن المحاكاة لم تنصب هنا على شعارات العذريين ومردداتهم، ولكنها اتجهت رأسا إلى وجدان المتلقي، لتحيله على المرجعية الإنسانية للتجربة، ولتضعه في بداية الطريق نحو رحلة روحية وذوقية شعارها الانطلاق من حب المخلوق لنيل رضا الخالق.
وإذا كانت الأنثى حاضرة بامتياز في التجربة الشعرية الصوفية، فإن حضورها يكتسي مذاقا خاصا ونكهة متميزة في كتابات ابن عربي عامة، وفي أشعاره الوجدانية خاصة، إذ أن الأنثى في تجربته الذوقية كانت ذات مرجعية واقعية، وحبه الروحي كان من منطلقات إنسانية، يقول ابن عربي في بوح قلما سمحت به فرج الجبة الصوفية، متغنيا في هذا البوح باستطيقا الجسد الأنثوي الأرضي: "وكان لهذا الشيخ رحمه الله –يقصد شيخه مكين الدين، زاهر ابن رستم الأصفهاني، شيخه في مكة- بنت عذراء، طفيلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر والمحاضر، وتحير المناظر، تسمى بالنظام، وتلقب بعين الشمس والبهاء، من العابدات العالمات السايحات الزاهدات، شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلا مين، ساحرة الطرف، عراقية الظرف،(...) ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الأغراض، لأخذت في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حقة مختومة، واسطة عقد منظومة.."، فالنظام، وإن كانت تمثل تجسيدا للحب الإلهي الذي يحيل إلى تجلي العلو في الصورة الفيزيائية المحسة، وشفرة استيطيقية توحي بانسجام الروح والمادي، والمطلق والمقيد في الأشكال المتعينة فإنها تقف بجانب هذا التمثيل شاهدا على الذوق الرفيع للمتصوفة الذين ناشدوا في المرأة جانبها الإستطيقي الجمالي، رادين بذلك الاعتبار للجسد الذي ازدرى في الكتابات الفقهية، وامتهن في الكتابات الشبقية، فالنظام تمثل حواء آدم المتصوف، عبر فتنتها الساحرة، وإغرائها (وليس إغوائها) اللذيذ، وهجرها القاسي، وقبل كل هذا عبر تقاسيمها اللطيفة التي شدت الصوفي وأشبعته رغبة وحلما. يقول ابن عربي محددا خريطة الأنثوي التي فارقت مؤشرات بوصلته صوابها في مجاهلها ودروبها:
بين الحشا والعيون النجل حرب الهوى والقلب من أجل ذاك الحرب في حرب
لمياء لعساء معسول مقبلها شهادة النحل ما يلقى في الضرب
ريا المخلخل، ديجور على قمر، في خدها شفق، غصن على كتب
حسناء حالية ليست بغانية تفتر عن برد ظلم وعـن شب
تصد جدا، وتلهو بالهوى لعب والموت ما بين ذاك الجد واللعب
فابن عربي، ومن خلال هذا التتبع الدقيق لمعالم الأنوثة في المرأة، إنما يعمل على تكريس خطاب العشق الذكوري في الثقافة العربية، والذي نحث نموذجا واحدا للمرأة لا يكاد يحيد عنه، وقد حمل هذا النموذج ما يطيق وما لا يطيق من القراءات والرؤى، فقد أرجعه البعض إلى أصل ديني، بينما أرجعه البعض الآخر إلى بنية الثقافة العربية وشروطها التاريخية والبيئية، بينما مثلت المرأة في شعر ابن عربي، وعبر أنوثتها الآسرة:
لؤلؤة مكنونة في صــدف، من شعر مثل سواد السبج
لؤلؤة غواصها الفكر فمــا تنفـك في أغوار تلك اللجـــج
بين الإنساني والروحي في الحضور الأنثوي داخل التجربة الصوفية:
إذا كانت الأبيات الشعرية الصوفية المستضيفة للمرأة تعرف سريانا لقشعريرة التجربة العذرية التي أحالت المرأة إلى معبد مشخص يكتفي منه العاشق/العابد، بمجرد النظر أو حتى الطيف في بعض التجارب المتسامية، فإن هذا التسامي لم يمنع من الحضور المكثف للجسد وتقاطيعه في التجربتين الصوفية والعذرية، وإن باختلاف في الرؤيتين، وتباين في التجربتين، إذ كان الجسد في التجربة العذرية رمزا للحرمان واللاتواصل، بينما تميز حضوره في التجربة الصوفية بالدور الجديد الذي أسند إليه، إذ اتخذ الجسد/المرأة مجلى من مجالي الجمال، ومقاما من مقاماته التي شدت انتباه الصوفي واستعبدت اهتمامه، يقول ابن عطاء، أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل (ت309) في تصوير بارع قلما سمحت به رقابة التجربة الروحية، وسلطتها الصوفية المعادية –على الأقل من منظور التيارين السني والشعبي- لحب الشهوات من النساء، ومكنوز الذهب والفضة:
أجلك أن أشكو الهوى منك أنني أجلك أن تومى إليك الأصابع
وأصرف طرفي نحو غيرك صامـدا على أنه بالرغم نحوك راجع
وهذا الصراع المستعر بين إرادة صرف النظر المستوردة وبين الرغبة في إطلاق سرب النظر نحو الأنثى، يترجم الصراع الروحي العنيف الذي اضطرم في جوانح الصوفي، إذ تجاذبه المدنس والمقدس، واحتار بين الفيزيائي والروحي، بين المحدد في الزمان والمكان وبين المطلق، ولعل هذا الصراع هو الذي ميز الحضور الأنثوى في التجربة الشعرية الصوفية بالقياس إلى نظيرتها العذرية؛ فإذا ما تحكمت في العذري رغبة في التسامي والعلو بحبه ومحبوبه، فإنه في رغبته تلك قد ظل ملتصقا بالأرضي، لم يفارقه أبدا، كما أن الحرمان والهجر قد شكلا مرجعيات رغبته التأسيسية، أما بالنسبة للرؤيا الصوفية فقد آمنت أولا بكل درجات الحب وأنواعه، تم ألفت في نظرتها للمرأة بين وجهي عملة الأنثوي وضايقت بينهما، وهذا التأليف بين وجهي عملة الأنثوي هو الذي جعل استطيقا الجسد تتوهج في الشعر الصوفي، وهو الذي شكل صورة المرأة في هذا الشعر بماء الفتنة والرواء، يقول الشاعر مستسلما لإصابة قاتلة من سهم ريشه الكحل والسحر:
لها في طرفها لحظات سحـــر تميت بها وتحيى من تريد
وتسبي العالمين بمقلتيها كان العالمين لها عبد
إن العين كقوة سحرية، ككوة للتحرر من غبش العالم الجواني والانفتاح على العالم الخارجي بكل حمولاته ودلالاته، تشكل في خطاب العشق الصوفي صاري سفينة الروح التي تنجذب بفعل قوة سحرية نحو خلجان فيروزية تحكمها كائنات ظاهرها سحر وباطنها فتنة، وغني عن التذكير هنا أن تيمة العين ذات مرجعية أزلية، فهي تعود لطفولة الجنس البشري الذي رأى في اقترانها بالماء رمزا من رموز الخصب والحياة، ألم يجعل ابن عربي موضع أنثاه "من العين السواد ومن القلب الفؤاد".
وداخل تيمة العين، وعبر مشتقاتها، وفي إطار دائرة نفوذها من رؤية ونظرة، والتفاتة وإثارة، وغيرها، يلح الشاعر الصوفي على النظرة الأولى التي مزقت ستار كينونته، فأعادت خلقه كائنا جديدا يتنفس حبا وعشقا ورغبة، ولا شك أن النظرة عبر أوليتها، تحيل على قضية الافتضاض التي كان لها مكانها في التجربة الصوفية، يقول ابن عربي مفتخرا بافتضاض أبكار الأسرار، "فالحمد لله الذي جعل فتح هذا المغرب فتح أسرار وغيره، فلا تفتض أبكار الأسرار إلا عندنا، ثم تطلع عليكم في مشرقكم ثيبات قد فرضن عدتهن فنكحتموهن بأفق المشرق فتساوينا، في لذة النكاح، وفزنا بلذة الافتضاض" فالنظرة الأولى –إذن- سر من أسرار الحب الصوفي، ومقام من مقامات العشق الروحي، التي تستحق أكثر من وقفة تأمل، إذ كثيرا ما كانت النظرة الأولى في قاموس الصوفية مفتاحا لمغالق السر الأنثوي الخالد، يقول الشاعر متدرجا مستدرجا
بأي فؤاد أحمل البعد والهوى وأنت قريب إن ذا لعجيب
ملكت فؤادي عند أول نظرة كما صاد عذريا أغن ربيب
وحيث لدائي كنت لي فيه عائـدا شفيت، وبعض العائدين طبيـب
وأنهلتني من ريقك الصرف شربه حلت لي وما كل الدواء يطيب
على أن ذكرا لا تزال سهامه ترى مقتلا من مهجتي فتصيب
أعير المنادي لاسمه السمع كله على علمه أني بذاك مريب
إن الحقول اللغوية المستوردة من ديوان الشعر العذري، والمستخدمة بذكاء للتعبير عن تجربة روحية ذوقية، قد مكنت التجربة الشعرية الصوفية، وحدها ودون غيرها، من استضافة عملة الأنثوي بوجهها الروحي والفزيائي، فتوهجت في أحضانها استطيقا الجسد، وتأنقت في جوانبها جمالية الروح.
رمز الحضور الأنثوي في الشعر الصوفي:
يعتبر الوقوف عند عتبة الجسد في التجربة الصوفية ضربا من الإسقاط، أو الرؤية التجزيئية التي تفقد التجربة خصوصياتها وتنزع بهذه الدراسة نحو قصور منهجي ورؤيوي لا نرتضيه لها، لذلك فقد كان لزاما أن نطرح بعض الأسئلة من قبيل: هل كان الحضور الأنثوي في التجربة الشعرية الصوفية حضورا لذاته أو أنه كان مجرد جسر للعبور نحو عوالم أخرى وفضاءات مغايرة، ثم لماذا هذا الحضور الأنثوي الباذخ والمثير أصلا؟
الحقيقة أن العلاقة بين المتصوف والمرأة تبدو أكبر وأشمل وأعمق من هذا الأسئلة وغيرها، إذ أنها ابتدأت ببداية الخلق ذاته، وتشكلت محبة وشوقا وحنينا، يقول ابن عربي: "وعمر الله الموضع من آدم الذي خرجت منه حواء بالشهوة إليها إذ لا يبقى في الوجود خلاء، فلما عمره بالهواء حن إليها حنينه إلى نفسه". فالحنين –إذن هو الميثاق الذي يربط الرجل بالمرأة في العرف الصوفي، ويجمع بينهما، وهو حنين ينزع إليها لا باعتبارها ذاتا، ولكن باعتبارها الجزء المفتقد من الإنسان الكامل، كما كانه الإنسان الأرضي، ولذلك فقد دخلت المرأة مع الرجل في علاقته الفاعلية والانفعال.
وكما جعل الله النكاح عبادة للسر الإلهي، فقد كانت المرأة باعتباره محتضنا لفعل النكاح عتبة أولى وأساسية لمعانقة هذا السر بل كثيرا ما سدت مسده، فتولت الوجوه نحوها، وتعلقت الخواطر بقبلتها، ونفخت مزامير الشوق والحنين إليها "ويمكن القول تأسيسا على ما تقدم أن المرأة بوصفها المحبوبة، رمز الأنوثة الخالقة، للرحم الكونية، وهي بوصفها كذلك علة الوجود، ومكان الوجود، والعاشق لكي يحضر فيها يجب أن يغيب عن نفسه. عن صافته، يجب أن يزيل صفاته لكي يثبت ذات حبيبته. إذ أن وجوده متعلق بوجودها، وكينونته رهن لتماهيه فيها، إذ لا وجود للثنائية والتعدد في هذا المقام. يقول ابن العريف (ت.526):
ألا قل لمن يدعي حبنا ويزعم أن الهوى قد علق
لو كان فيما إدعى صادقا لكان على الغصن بعض الـورق
فأين التحول وأين الذبول وأين الغرام، وأين القلق
وأين الخضوع وأين الدمــوع وأين السهاد وأين الأرق
لنا الخائضون بحار الهـلاك إذا لمعت نارنا في الغسـق
لن يستأنس بنار الحبيبة المنادية، إلا كل مقتحم لبحار الهلاك، ولن يقتبس من فضلها إلا سندباد الأهوال والمخاطر، فالحبيبة –كما الحقيقة- لا تعطي نفسها لكل خاطب، إذ أن شرطها هو سلب الإرادة، فكل من تجرد من ثوب الإرادة بعد سلوك ومقامات، فقد تمسك بكنه الإرادة وجوهرها.
أما ابن الفارض فقد قدم نفسه وكينونته هدية للمحبوبة التي أسكرت وعيه وتربعت على عروش أحاسيسه، فتألقت في أشعاره، وتوهجت في تراتيله سحرا وعطرا وغيبوبة وانتشاء فقد معها الشاعر تواصله بعالم الآدميين فنظم في عرفهم ما يحتاج شرحا وترجمة وتأويلا، يقول:
أهفو إلى كل قلب بالغرام له شغل وكل لسان بالهوى لهج
وكل سمح من اللاحي به صمم وكل جفن إلى الإغفاء لم يهج
لا كان وجد به الآماق جامدة ولا غرام به الأشواق لم تهج
عذب بما شئت غير البعد عنك تجد أوفى محب بما يرضيك مبتهج
وخذ بقية ما أبقيت من رمق لا خير في الحب إن أبقى على المهج
ولدى هذا الرصيد من التجربة الصوفية تنكشف الأنثى بوصفها تجسدا للحب الإلهي الذي يحيل إلى تجلي العلو في الصورة الفيزيائية المحسة، وشفرة استيطيقية توحي بانسجام الروحي والمادي، والمطلق المقيد في الأشكال المتعينة. ولهذا كان الشعر الصوفي في دروب جمالها المقيد، عتبة للانطلاق نحو عوالم المطلق التي تدعو دعوة ملحة للاقتراب أكثر منها.