[center]
القطب الكبير ابو العلمين سيدي احمد الرفاعي
في مقام الحضور والمشاهدة تتوالى انوار التجلي الالهي على قلب العارف وتنكشف غيوم الاستار عن سماء الحقيقة . فيفنى المشاهد بسره في معاينة الجمال القدسي ، وتعب الروح من كأس الوصال حتى الثمالة . وعندئذ تستطع شموس المعارف والالهامات في ساحة القلب ،وينهل السر من اسرار الغيب ، ومع دوام التجلي يتواصل الامداد والاشراق ويهتف العارف بلسان الحقيقة قائلا :
ليلى بوجهك مشرق
وظلامه في الناس ساري
فالناس في سدف الظلام
ونحن في ضوء النهار
انه مقام اهل الصدق والاخلاص من خواص الحق تعالى المقربين واوليائه العارفين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، اولئك حزب الله الا ان حزب الله هم المفلحون .
ومن شوامخ اعلام اولئك الواصلين وصدور اعيان الاولياء المحققين ، قطب اقطاب العارفين ومركز دائرة الصديقين غوث الثقلين ابو العلمين سيدي احمد الرفاعي ( رضي الله عنه ) في الدارين .
امام ترقى في معاريج الحقائق حتى انتهت دونه مقامات الاولياء ، وعارف حلقت روحه في سماوات الوصال حتى غابت عن ذاتيتها في محيط الفناء .
وقطب جمع بين الشريعة والحقيقة علما وحالا وذوقا ومقالا ، فتصدر للقيادة الروحية والتربية الصوفية على منبر الخصوصية والتمكين ،وأروى قلوبا عطاشا طالما برح بهما شوق الى النور ، وحنين الى الطهر والصفا فشعت قبسات هديه المحمدي لتنير الدرب وتثبت الاقدام وتشعل جذوة الشوق الى الله في قلوب عباد خلقوا للتفرد في محاريب العبودية والاختصاص ، فرفع الامام الرفاعي علم الصوفية على صرح مدرسة جديدة تحمل اسمه وطريقته ،وتنشئ رجالا يخلفون السلف الصالح في اقبالهم على الله وتجردهم لخدمته واحيائهم معالم الطريق المحمدي برائع سمته وجليل عظمته وشامخ مجده .
وشهد القرن السادس الهجري تألق هذا المجد وبزوغه رأي العين وملء السمع والبصر على نحو سنشير اليه – بجهد المقل – حسب طاقتنا وطاقة المقال محاولين ان نضع مجرد نقط تومئ الى سرج في السماء وكواكب تسبح في العلياء ، فليكن التوفيق حليفنا ، ولتطل علينا روحانية القطب الرفاعي لتسكب في اعماقنا بارقة من نور تقودنا الى معرفتها والتعريف بها اذ لا سبيل لنا الى التحدث عنها الا بها ، فهي نفحة من نور سيد الخلق صلى الله تعالى عليه وسلم .
ولعل أول ما يؤكد سريان المدد المحمدي إلى مولانا الإمام القطب الرفاعي ( رضي الله عنه ) انه ينتمي نسبه إلى العترة المحمدية الطاهرة ، فلقد اجمع الرواة والمؤرخين على انه ينتهي نسبه من جهة ابيه إلى مولانا الإمام الحسين رضي الله عنه وعنا به في الدارين ، فهو الإمام السيد احمد بن السيد علي بن السيد الحسن – الملقب برفاعة – ابن السيد المهدي بن السيد ابي القاسم محمد بن السيد الحسن بن السيد الحسين بن السيد موسى الثاني بن السيد ابرهيم المرتضى ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الامام محمد الباقر ابن الإمام زين العابدين علي بن سيدنا الأمام ابي عبد الله الحسين بن سيدنا علي وسيدتنا فاطمة الزهراء بنت سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، فأنعم به من نسب زكي ، وفي ذلك يقول الخطيب الادفوي : لنسبة احمد المولى الرفاعي .
لطه وصلة عظمت مقاما
سرى برهانها شرقا وغربا
وسار معطرا يمنا وشاما
ولقد بشر مولانا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمولد القطب الرفاعي قبيل ولادته ، فلقد روى العارف الرباني سيدي منصور البطائحي بقرية ( ام عبيدة ) من اعمال واسط بالعراق يوم الخميس في النصف الاول من شهر رجب ستة اثنتي عشرة وخمسمائة هجرية ، وتفجر النور المحمدي الذي أهدته السماء الى الارض لينتشر في ربوعها شعاع الايمان واليقين ، وليبث دعوة الاصلاح الروحي ، ويحيي معالم الهدي المحمدي الوضاء ، ولاحت سمات التفرد الاصطفائي منذ شروق حياة الامام الرفاعي ، فالاوساط الصوفية كلها كانت على موعد مع فجر ميلاده عن طريق الكشف او التبشير كما حدث لخاله الشيخ منصور ،
ولقد كانت نظرة واحدة على وجه الإمام الرفاعي وهو لا يزال رضيعا في مهد طفولته تعطى للمتوسم كل دلالات التفرد والولاية ، بل ان الاحداث نفسها كانت كثيرا ما تأخذ طابع الكرامات والخوارق فلقد روى صاحب ( النجم الساعي في مناقب القطب الرفاعي الكبير ) لأنه كان لسيدي احمد مرضعة صالحة وعفيفة النفس فأعطته يوما ثديها فما قبله وأعرض عنها ، فنظروا في الامر وفحصوا فوجدوا هذه المرضعة بلا وضوء ، فلما توضأت شرب من لبنها ( رضي الله عنه ) كما روى في نفس المرجع ان سيدي احمد كان يشرب اللبن كل يوم من حين ولدته امه الى رمضان فتقيد بعدم شربه فيه الى حين جاء العيد فشربه في اول يوم وافطر مع الناس فيه !!
لقد أغدقت عليه العناية من امدادها الرباني وتوالت النفحات مع الايام والدقائق والانفاس وتكفل سيدي منصور البطائحي برعاية سيدي احمد وتربيته حيث قد لحق أبوه بربه قبل ولادته ، وعمل سيدي منصور بوصية المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم فأخذ سيدي احمد الى الشيخ علي الواسطي – بعد ان حفظ القرآن الكريم – وجمعه عليه ليريبه في الطريق وليأخذ عليه العهد الوثيق ، وبذا اجتمعت لسيدي احمد روافد العرفان ،والتحقييق ممثلة في خاله القطب الرباني الشيخ منصور ، وشيخه علي القارئ . كما يروي صاحب النجم الساعي انه اخذ ايضا عن خاله سلطان العلماء الشيخ ابي بكر الواسطي الانصاري ، علوم الشريعة وتفنن بها والف الكتب الكثيرة .
وبذا اجتمعت لسيدي احمد تربية الظاهر والباطن ، فلقد تفقه في الدين على مذهب الامام الشافعي رضي الله عنه ودرس التنبيه والف شرحا عليه فيما بعد كما صنف في التفسير والحديث وعلوم القوم اسفار ثمينة .
ولقد أقبل سيدي احمد منذ صباه المبكر على شتى المناهل التي تؤهله لسلوك الطريق والمضي على قدم التحقيق . فنال منها راح المعرفة واكسير الحكمة الربانية .
يروي الامام الشعراني ( رضي الله عنه ) ان سيدي احمد كان يقول : ( لما مررت وانا صغير على الشيخ العارف بالله تعالى عبد الملك الخرتوني وصاني وقال لي : يا أحمد ، احفظ ما أقول لك فقلت : نعم ، فقال رضي الله عنه : ملتفت لا يصل ، ومتسلل لا يفلح ، ومن لا يعرف من نفسه النقصان فكل اوقاته نقصان ، فخرجت من عنده وجعلت اكررها سنة ثم رجعت اليه فقلت : أوصني : فقال لي : ما أقبح الجهل بالالباء والعلة بالاطباء والجفاء بالاحباء ثم خرجت وجعلت ارددها سنة فانتفعت بموعظته ) .
وهكذا كان سيدي احمد يصعد سلم الارتقاء وعيون العارفين ترقبه بعنايتها وتتطلع اليه بفراستها فتكشف فيه أمل المستقبل في عالم الولاية .
روى الامام النبهاني في ( جامع الكرامات ) انه مر بالامام الرفاعي جماعة من الفقراء – اي فقراء الصوفية – في صغره . فوقفوا ينظرونه ، فقال أحدهم : لا اله الا الله محمد رسول الله . ظهرت هذه الشجرة المباركة ، فقال الثاني : تتفرع لها فروع . فقال الثالث : عن قليل يشتمل ظلها . فقال الرابع : عن قليل يكثر ثمرها ويشرق قمرها فقال الخامس : عن قليل وترى الناس منها العجب ويكثر نحوها الطلب . فقال السادس : عن قليل يعلو ِشأنها ويظهر برهانها ، فقال السابع : كم يغلق لها باب وكم يظهر لها اصحاب أ.هـ .
وعندما دنت وفاة سيدي منصور البطائحي شيخ اقطاب عصره . اراد بعض اهله واصحابه ومريديه ان يجعل الخلافة في الطريق لابنه من بعده .
بيد ان سيدي منصورا كان يرى ان لا أحقية لأحد في المشيخة من بعده الا لسيدي احمد الرفاعي . فقالت له زوجته : اوص لولدك .
فقال : بل لابن اختي ، فكررت عليه القول . فأراد ان يحسم الموقف بالدليل ، فقال لابنه ولابن اخته : إئتياني بنجيل من ارض كذا . فأتاه ابنه بنجيل كثير ولم يأته ابن اخته بشيء .
فقال له : يا أحمد لم لم تأت بنجيل ؟
فقال : وجدته كله يسبح لله عز وجل فلم استطع ان اقلع منه شيئا .
وهكذا برهن سيدي منصور على احقية سيدي احمد بالخلافة ، ولمست زوجته واهله واصحابه شواهد الاستحقفاق والتحقيق من عارف يشهر في الموجودات بأسرها سر قوله تعالى : وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء : 44 ) .
وتسلم سيدي احمد لواء الولاية خلفا لسيدي منصور ( رضي الله عنه ) ، ومن ثم نتعرف على سند القطب الرفاعي في الطريق ، فقد تلقى خرقة التصوف من خاله سيدي بن منصور البطائحي ، وهو عن شيخه سيدي محمد الشنيكي امام التصوف بالطبائع في عصره . ووهو قد أخذ عن سيدي ابي بكر بن هوار البطائحي . الذي تلقى الخرقة عن سيدنا ابي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) ، فقد ذكر الامام الشعراني في ترجمة سيدي ابي بكر بن هوار في الطبقات ما نصه : ( وهو أول من البسه ابو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) الخرقة ثوبا وطاقية في النوم فاستيقظ فوجدهما عليه ) رضي الله عنهم أجمعين .
والى جانب هذا السند الظاهري الذي سلك به القطب الرفاعي فان سيدي احمد كان يستمد سنده الباطني من سيد الوجود صلى الله تعالى عليه وسلم مباشرة . ولقد ربته روحانية سيد العالمين صلى الله تعالى عليه وسلم ورقاه الى ذروة الولاية والتحقيق ، بل ان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي سماه بالرفاعي ،فقد روى الشيخ ابو بكر الميدروس ان الشيخ عمدادا الزنجي سال السيد الكبير – سيدي احمد – فقال اي سيدي : ما سبب اشتهاركم بالرفاعية ؟ فقال السيد الكبير : ( يا زنجي هو اني كنت يوما جالسا في عرفات ، فاذا جماعة من الاولياء ، وأهل الطريق الابدال في ذلك المجلس ، فالتفت في جانبي فرأيت سيد المرسلين ، فقال يا رفاعي : قد ارتفعت درجتك في الدنيا والاخرة بشارى لك فصار اسمي من ذلك اليوم مشهورا بالرفاعي بين اهل الحضرة لانهم سمعوه من نفس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ذلك امر التسمية الباطنية ،واما تسميته الظاهرية بالرفاعي فنسبة الى جده رفاعة الحسن ابي المكارم المكي . واما كنيته بابي العلمين ، فلاتصال نسبة من جهة ابيه بسيدنا ومولانا الامام الحسين ومن جهة امه بسيدنا ومولانا الامام الحسن ( رضي الله عنه ) وعنا به في الدارين .
وذكر بعض العارفين ان كنيته بأبي العلمين للاشارة الى علمي الشريعة والحقيقة ، فهو حامل لواء الظاهر والباطن . وامام العلم الشرعي والحقيقي .
والمتصفح للجانب السلوكي عند مولانا القطب الرفاعي يرى اقباسا من الضياء فتوهج ، وصفحات من النور تزخر بطاعة هذا العارف لربه وشغله به وتفانيه في عبادته ، يروي صاحب النجم الساعي عن الشيخ منصور العدوي قال : سمعت من الشيخ الزنكي قال : ( ان السيد احمد كان في ليله ونهاره يختم القرآن الكريم ، وكان ورده وذكره قراءة القرآن ، فأنه افضل الذكر ) ويحدثنا الامام المناوي في طبقاته عن جانب الزهد والعبادة عند سيدي احمد فيقول : ( وكان لا يجمع بين قميصين شتاء وصيفا ، ولا يأكل الا بعد يومين او ثلاثة اكلة واحدة ، ويصلي كل يوم اربعمائة الركعة بالف ( قل هو الله احد ) ويستغفر كل يوم بالفين ، يقول الا اله الا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين ) .
ويروي الشيخ العيدروسي انه كان ( رضي الله عنه ) اذا شرع في الصلاة يصفر لونه الشريف . واذا فرغ من صلاة الصبح يستمر في مكانه جالسا بالذلة والمسكنة يقرأ الاوراد الى ضحوة النهار العالية ، واذا فرغ من ذلك صلى صلاة الاشراق وصلاة الضحى ثم يتوجه الى ام عبيدة ، ويجاهد نفسه الغيورة الكريمة على العبادة ، وكان يقول : اذ كنت في الخلوة يحصل عندي التأسف والتحسر كثيرا ، وكان دائما يرى في الخلوة واقفا على قدميه ويجاهد نفسه وينشد هذا البيت ويقول :
والله لو علمت روحي بمن علقت
قامت على راسها فضلا عن القدم
لقد سكن العارف الرفاعي الى ربه وآنس به ، فسجد قلبه على بساط خدمته واستجمعت همته كل الاحوال والمقامات فلم يشغل بها عن مولاه ، لقد تخطى كل الحواجز والعوالق وصار عبدا ربانيا محضا لا شائبة لرق فيه لغير سيده ، وصارت الطاعة للمولى عز وجل في الروح والريحان ، لقد سقطت الانية في الطريق فلم يبق الا روح نورانية مجردة تغيب بفنائها في معشوقها الازلي ، ثم تعود من رحلة الفناء الى مقام البقاء ، وعليها من حلل الجلال والجمال ما يضيق عنه نطاق المقال .
واذا ما تساءلنا عن حقيقة مقام القطب الرفاعي ومكانته في الطريق ، فسوف يكون الجواب بغير جدود لان مولانا الامام الرفاعي قد تخطى كل المقامات .
وليس هذا الحكم عفويا او من عندياتنا او من قبيل الحدس المبالغ فيه ، فقد سجل الامام الشعراني ( رضي الله عنه ) هذا الحكم في طبقاته ، اذ حكي عن سيدي احمد انه قال له شخص من تلامذته : يا سيدي انت القطب ، فقال له سيدي أحمد : نزه شيخك عن القطبية ، فقال له : وأنت الغوث ، فقال : نزه شيخك عن الغوثية !!
ويعلق الامام الشعراني على ذلك قائلا : ( قلت وفي هذا دليل على انه تعدى المقامات والاطوار ، لان القطبية والغوثية مقام معلوم ، ومن كان مع الله وبالله فلا يعلم له مقام ، وان كان له في كل مقام مقام والله أعلم ) .
حقيقة ان سيدي احمد لا يدرك شأوه في الولاية فهو أحد الاربعة الاقطاب الذين هم اركان الولاية العظمى ، الوارثون للمدد المحمدي المتآخية ارواحهم في حضرة القدس ولقد نقل عن كنز العارفين سيدي احمد الزاهد ( رضي الله عنه ) انه كان يقول : ( المشايخ رضي الله عنهم عددهم الف واربعمائة وعشرون الف شيخ واعظمهم وابرعهم في المشيخة والولاية ثلثمائة شيخ وافضل الثلثمائة سبعون شيخا ، وافضل السبعين سبعة شيوخ ، وافضل السبعة اربعة شيوخ وافضل الاربعة شيوخ ثلاثة شيوخ ، وافضل الثلاثة واحد واصطلاح القوم والاصحاب ، هذا الواحد الواحد هو قطب الاقطاب سيدي احمد الرفاعي الكبير ) .
وروى صاحب النجم الساعي ان الشيخ حجي خالد ومجرد الاكبر وعماد الدين الزنجي وعلي بن نعيم البغدادي ويعقوب الكواز والشيخ علي بن عبد الوهاب وسيدي عبد السلام وسيدي عبد القادر الجيلاني جميهعهم شهدوا ان جميع الاولياء تشهد ان السيد الكبير سيدي احمد الرفاعي غالب اوقاته دائر في العالم العلوي ووجوده في العالم السفلي كناية عن النوع لانه كان دائم السكر والغرق في بحر المحبة للخلق ، وكان دائم التوجه للعالم المجرد والثنتاء المطلق .
ولقد كان الامام الرفاعي دائم الحضور مع الله تعالى وفي الحضرة المحمدية يقظة ومناما ، فقد نقل الشيخ العبدروس عن الشيخ نجم الدين انه قال لي سيدي احمد الرفاعي : ( قد رايت الله سبحانه وتعالى في المنام مائة مرة واربع عشرة مرة ورأيت سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم مائة وسبعا واربعين مرة ... وقال : هذا في النوم وما غاب عن يقظة ابدا ) .
ولقد كان الامام الرفاعي ( رضي الله عنه ) غارقا في بحار المشاهدات والتجليات التي لا يسع العقل تصورها ، يقول الامام الشعراني في محلقاته مصورا احد مشاهد التجلي الالهي التي كانت تحدث لسيدي احمد الرفاعي : وكان اذا تجلى الحق تعالى عليه بالتعظيم يذوب حتى يكون بقعة ماء ثم يتداركه اللطف فيصير يجمد شيئا فشيئا حتى يرد الى جسمه المعتاد ويقول : لولا لطف الله تعالى بي ما رجعت اليكم .
وها هو يصف احوال المتمكنين فيقول : ( ان العبد اذا تمكن من الاحوال بلغ محل القرب من الله تعالى ، وصارت الارضون كالخلخال برجله ، وصار صفة من صفات الحق جل وعلا ، لا يعجزه شيء وصار الحق تعالى يرضى لرضاه ويسخط لسخطه ، قال : ويدل لما قلناه : ما ورد في بعض الكتب الالهية ، يقول الله عز وجل : يا بني ادم اطيعوني اطعكم ، واختاروني اختركم وارضوا عني ارض عنكم ، واحبوني احبكم ، وراقبوني ارقبكم واجعلكم تقولون للشيء كن فيكون ... يا بني ادم من حصلت له حصل على كل شيء ، ومن فته فاته كل شيء ) .
ويعلق الامام الشعراني على ما يلتبس فهمه من تلك العبارة فيقول : ( وقوله صار صفة من صفات الحق تعالى لعله يريد التخلق والاتصاف بصفته تعالى من الحلم والصفح والكرم ، لانه لا يصح لاحد ان يكون عين صفات الحق ، فهو كقوله ( فبي يرى وبي يسمع وبي ينطق وما أشبه ذلك) .
ثم لنقف الان عند جانبين من ابرز الجوانب التي حفلت بها شخصية الامام الرفاعي ( رضي الله عنه ) وفاق فيهما الذروة ، وهي ( الفتوة والتواضع ) ، وفي تعريف الفتوة يقول الامام القشيري : ( ان يكون العبد ساعيا ابدا في امر غيره ).
وفيها يقول العارف ابو علي الدقاق : ( هذا الخلق لا يكون كماله الا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم – فان كل احد في القيامة يقول : نفسي ... نفسي ... وهو صلى الله تعالى عليه وسلم يقول ... امتي ... امتي .. ) .
ولقد كان القطب الرفاعي شفوقا بالمسلمين الى حد الاقتداء وايثار فقد ذكر الامام الشعراني ان سيد احمد كان ( رضي الله عنه ) يمرغ وجهه وشيبته في التراب ويبكي ويقول : ( العفو ... العفو .... اللهم اجعلني سقف البلاء على هؤلاء الخلق ) .
وكان ( رضي الله عنه ) حمالا للاذى في تسامح كريم ولم يتغير خاطره من مخلوق قط مهما تطاول عليه بالاذى او لج في العناد والانكار ، ولقد روى الامام الشعراني ان الشيخ ابراهيم البستي ارسل الى سيدي احمد كتابا يحط عليه فيه ، فقال سيدي احمد للرسول ، اقرأه ، فقرأه فاذا فيه : اي اعور اي دجال اي مبتدع يا من جمع بين الرجال والنساء حتى ذكر الكلب ابن الكلب وذكر اشياء تغيظ ، فلما فرغ الرسول من قراءة الكتاب اخذه سيدي احمد ( رضي الله عنه ) وقال : صدق فيما قال جزاه الله عني خيرا ثم انشد :
ولست أبالي من زماني بريبة
إذ كنت عند الله غير مريب
ثم قال للرسول اكتب اليه الجواب ، ( من هذا اللاش حميد الى سيدي الشيخ ابراهيم البستي رضي الله عنه اخا قولك الذي ذكرته فان الله تعالى خلقنني كما يشاء ، واسكن في ما يشاء واني اريد من صدقاتك ان تدعو لي ولا تخليني من حلك وحلمك ) وكانت لسيدي احمد شفقة بالغة بالحيوان حتى ان القطب الشعراني قال : ( وكأن قد كلفه الله بالنظر في امر الدواب والحيوانات ) . وذكر انه كان اذا جلس على ثوبه جرارة وهومار في الشمس وجلست على محل الظل ، يمكث لها حتى تطير ، ويقول : انها استظلت بنا !! وكان اذا نام على كمه هرة وجاء وقت الصلاة ويقطع كمه من تحتها ولا يوقظها . فأذا جاء من الصلاة اخذ كمه وخاطه ببعضه !! ووجد ( رضي الله عنه ) مرة كلبا أجرب أخرجه اهل ام عبيدة الى محل بعيد ، فخرج معه الى البرية وضرب عليه مظلة وصار يطليه بالدهن ويطعمه ويسقيه ويحت الجرب منه بخرقة فلما برئ حمل له ماء ساخنا وغسله .
انها الرحمة الرحيمة واالشفقة المثالية بخلق الله .. ومن ثم فقد سخر الله له المخلوقات حتى ان اشد الحيوانات والهوام ايذاء قد ذلت للامام الرفاعي ، مثل الحيات والعقارب والثعابين وغيرها ؟. ولا تزال طائفة الرفاعية تشتهر بترويض هذ الحيوانات المؤذية واقتنائها الى يومنا هذا ، ولا عجب فمن اطاع الله اطاعه كل شيء .
ولقد ضرب سيدي احمد الرفاعي اروع الامثلة في التواضع الجم والادب المحمدي والذلة والانكسار وادب مريديه بادابه . فقد روى عن خادمه الشيخ يعقوب انه قال : نظر سيدي احمد ( رضي الله عنه ) الى النخلة فقال : يا يعقوب ، انظر الى النخلة لما رفعت راسها جعل الله تعالى ثقل حملها عليها ولو حملت مهما حملت وانظر الى شجرة اليقطين لما وضعت نفسها القت خدها على الارض ، جعل ثقل حملها على غيرها ولو حملت مهما حملت لا تحس به .
ولقد كان ( رضي الله عنه ) يقول لاولاده : ( من تمشيخ عليكم فتتلمذوا له ، فان مد يده لكم لتقبلوها فقبلوا رجله ومن تقدم عليكم فتقدموا وكونوا اخر شعرة في الذنب فان الضربة اول ما تقع على الراس ) .
وقال ( رضي الله عنه ) لاصحابه يوما ( من راى منكم في حميد – ويعني نفسه – عيبا فليعلمه به . فقام شخص فقال يا سيدي فيك عيب عظيم . فقال : وما هو يا أخي ؟ فقال : كان مثلنا من اصحابك . فبكى الفقراء وعلا نحيبهم وبكى سيدي احمد معهم وقال : أنا خادمكم انا دونكم ) هذه هي اخلاق النبوة التي ورثها الوارث المحمدي سيدي احمد الرفاعي .
ولقد كان اخر مثل ضربه في الفتوة ( رضي الله عنه ) هو ما رواه الامام الشعراني ان سيدي يعقوب خادمه ( رضي الله عنه ) قال : لما مرض سيدي احمد الرفاعي عنه مرض الموت قلت له : تجلى العروس في هذه المرة ؟ قال : نعم فقلت له : لماذا ؟ فقال : جرت امور اشتريناها بالارواح ، وذلك انه اقبل على الخلق بلاء عظيم فتحملته عنهم وشريته بما بقي من عمري فباعني ) !!
لله انت يا امام العارفين ... يا معدن الرحمة من سيد الاولين والاخرين ، لقد أسس الامام الرفاعي طريقته السنية على نهج الكتاب والسنة فاهتدى بها السالكون ووصل بها السائرون .
منهج الطريقة الرفاعية قد رسمه شيخها بقوله ( رضي الله عنه ) : ( طريقي دين بلا بدعة ، وهمة بلا كسل ، وعمل بلا رياء ، وقلب بلا شغل ، ونفس بلا شهوة ) وروح المشرب الرفاعي الذي بنى عليه طريقه يتمثل في قوله ( رضي الله عنه ) : ( سلكت كل طريق فما رأيت أقرب ولا أسهل ولا اصلح من الذل والافتقار ، والا نكسار لتعظيم امر الله ، والشفقة على خلق الله والاقتداء بسنة سيدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ) وقال : ( رأيت جميع الطريق الى الله تعالى من طريق الذل والانكسار والمسكنة ) .
وغني عن الذكر ان ما يعنيه سيدي احمد بالذل والانكسار والمسكنة ليس المراد به الضعف في الدين ولا امتهان حرمة المسلم فلذلك بمنأى عن قصده بل هو على النقيض منه ، ولكن المراد هو اذلال النفس بالعبودية لخالقها والانقياد له ختى يتنقل سلطانها الى القلب كما قال عليه رضوان الله : ( ما حياة القلب الا في اماتة النفس ) .
وكان ( رضي الله عنه ) يقول : ( طريقتنا مبنية على ثلاثة اشياء : لا نسأل ، ولا نرد ، ولا نذخر ) ولقد نور الامام الرفاعي ابناءه ومريديه بنور معرفته ، وغسل قلوبهم بماء حكمته لقد كان رضي الله عنه يقول : ( اذا صلح القلب صار مهبط الوحي والاسرار والانوار والملائكة ، واذا فسد صار مهبط الظلم والشيطان ، واذا صلح القلب اخبرك بما وراءك وامامك ونبهك على امور لم تكن تعلمها بشيء دونه واذا ففسد حدثك بباطلات يغيب معها الرشد وينتفي معها السعد ) ، وكان يقول عليه الرضوان : ( من شرط الفقير ان يرى كل نفس من انفاسه اعز من الكبريت الاحمر فيودع كل نفس اعز ما يصلح له فلا يضيع له نفس ).
ولقد سلك على يديه رجال ورجال نهلوا من نبعه كأس الصحبة والوصال يقول الامام المناوي ( رضي الله عنه ) : ( وكانت حلقة مريديه ستة عشر الفا ) .
ويروى انه ترك يوم وفاته اتباعا عدوا يومها بمائة الف او يزيدون ، لقد تجمعت هذه القلوب لتستقي من معين الحكمة والمعرفة وترتوي من فيض الهام القطب اللدني الذي لا ساحل لمحيط معرفته .
لقد تحدث يوما عن الكشف فقال : الكشف قوة جذابة بخاصيتها نور عين البصيرة الى فيض الغيب ، فيتصل نورها به اتصال الشعاع بالزجاج الصافية حال مقابلتها المنبع الى فيضه ، ثم تقاذف نوره منعكسا بضوئه على صفاء القلب ثم يترقى ساطعا الى عالم العقل فيتصل به اتصالا معنويا له اثره في استفاضة نور العقل على ساحة القلب فيشرق نور العقلق على انسان عين السر فيرى ما خفى عن الابصار موضعه ودق عن الافهام تصرفه ، واستتر عن الاغيار مرآه .
سبحان من افاض على اوليائه بتلك المنح العرفانية ونأتي اخيرا الى جانب الكرامات وماذا عسى ان نقول ؟ ان مقياس الكرامات لا يقوى على استيعاب ما حفلت به شخصية القطب الرفاعي ، فكل جوانب حياته كرامات وفيها ما هو اكبر من الكرامات فلنذكر تبركا ما يزيدنا عرفان بالمقام الرفاعي :
وروى حمهرة الصوفية ان سيدي احمد الرفاعي ( رضي الله عنه ) لما حج وقف تجاه الحجرة العطرة النبوية وقال : السلام عليك يا جدي فرد عليه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قائلا : عليك السلام يا ولدي ، فتواجد سيدي احمد لهذه الجليلة وقال منشدا :
في حالة البعد روحي كنت ارسلها
تقبل الارض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الاشباح قد حضرت
فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فمد له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يده الشريفة من قبره الكريم فقبلها في ملا يقرب عن تسعين الف رجل والناس ينظرون ليد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ويسمعون كلامه ، وكان من شهود هذا الموقف الجليل سيدي عبد القادر الجيلاني وسيدي عدي الشامي والشيخ قيس الحراني وغيرهم من كبار العارفين رضي الله عنهم اجمعين .
ومن كراماته ان رجلين تحابا في الله اسم احدهما معالي والاخر عبد المنعم فخرجا الى الصحراء فتمنى احدهما كتاب عتق من النار ينزل من السماء فسقطت منها ورقة بيضاء فلم يرى فيها كتابة ، فاتيا القطب الرفاعي فلم يخبراه بالقصة ، فنظر اليها ثم خر ساجدا وقال : الحمد لله الذي أراني عتق اصحابي من النار في الدنيا قبل الاخرة فقيل له : هذه بيضاء ، فقال اي اولادي ..يد القدرة لا تكتب سوداء ، وهذه مكتوبة بالنور !!
ومنه ايضا ان بعض اصحابه راه في المنام في مقعد صدق مرارا ولم يخبره ، وكان للشيخ إمرأة بذيلة اللسان تسفه عليه وتؤذيه ، فدخل عليه الذي رآه في مقعد صدق يوما ، فوجد بيد امراته محراك التنور وهي تضربه على اكتافه فاسود ثوبه وهو ساكت ، فانزعج الرجل وخرج من عنده فاجتمع باصحاب الشيخ وقال : يا قوم يجري على الشيخ من هذه المرآة هذا وانتم سكوت ؟؟
فقال بعضهم مهرها خمسمائة دينار وهو فقير ، فمضى الرجل وجمع خمسمائة دينار وجاء بها الى الشيخ في صينية فوضعها بين يديه ،
فقال له : ما هذا ؟
فقال : مهر هذه الشقية التي فعلت بك كذا وكذا ،
فتبسم وقال :( لولا صبري على ضربها ولسانها ما رأيتني في مقعد صدق ) .
انه خلق الفتوة وانها عظمة الشخصية وقوة التحمل تتمثل بأسمى معانيها وأروع صورها في الامام الرفاعي قطب الاقطاب الذي ربى اقطابا رجالات يسيرون على دربه المحمدي في كل عصر . ولقد كان من صفوة وارثيه في هذا العصر مولانا الشيخ جودة ابراهيم ( رضي الله عنه ) الذي تجسدت فيه الاخلاق المحمدية وانطبع اثرها فيمن سلك على يديه .
واخيرا : فهذا هو الامام الرفاعي الذي ترجم له الحافظ الذهبي – احد ائمة السلف – قائلا : ( الامام القدوة العابد الزاهد شيخ العارفين ابو العباس احمد بن ابي الحسن ... الرفاعي المقربي ثم البطائحي ) .
وبعد فقد عشنا في رحابك يا سيدي يا ابا العلمين نرتوي من مددك وننعم بذكرك فبحق جدكم المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم ان تمدونا بمددكم وتجذبونا بانواركم الى رحاب عطفكم ( رضي الله عنه ) وجعلنا من ورثة امدادكم في الدنيا والدين .
المصدر: من بحار الولاية المحمدية في مناقب اعلام الصوفية - للاستاذ الدكتور جودة محمد ابو ايلزيد المهدي - ص411 - ص427.