الحمد لله العزيز الجبار، خالق الليل والنهار، وأشهد ان محمدًا عبده ورسوله المختار، صلى الله عليه وعلى ءاله وأصحابه الأخيار، ما غابت شمس وطلع نهار.
تعريف التصوف ليعلم ان التصوف جليل القدر، عظيم النفع، انواره لامعة، وثماره يانعة، فهو يزكي النفس من الدنس، ويطهر الانفاس من الأرجاس، ويوصل الانسان إلى مرضاة الرحمن، وخلاصته اتباع شرع الله، وتسليم الأمور كلها لله، والإلتجاء في كل الشئون اليه مع الرضى بالمقدّر ، من غير إهمال في واجب ولا مقاربة لمحظور.
وقد اختلف في تعريفه فقيل: " التصوف الجِدُّ في السلوك إلى ملك الملوك"، وقيل: "التصوف الموافقة للحق"، وقيل:"إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها ونقاء ءاثارها"، وقال بشر بن الحارث: "الصوفي من صفا قلبه لله ".
وقد سئل الإمام أبو علي الرَوْذباري عن الصوفي فقال: "من لبس الصوف على الصفا، وكانت الدنيا منه على القفا، وسلك منهاج المصطفى
، وسئل الإمام سهل بن عبد الله التُّستَري عن الصوفي فأجاب: "من صفا عن الكدر ، وامتلأ من الفكر، واستوى عنده الذهب والمدر"، وقال الشيغ محمّد ميارة المالكي في شرح المرشد المعين: "في اشتقاق التصوف أقوال إذ حاصله اتصاف بالمحامد، وترك للأوصاف المذمومة، وقيل من الصفاء".
وقيل غير ذلك من الأقوال التي هي مسطورة في كتب القوم.
حقيقة التصوف التصوف مبني على الكتاب والسنة كما قال سيد الطائفة الصوفية الجنيد البغدادي
: "طريقنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة، إذ الطريق إلى الله تعالى مسدود على خلقه إلا على المقتفين ءاثار رسول الله
، وقال الشيخ تاج الدين السبكي: "ونرى ان طريق الشيخ الجنيد وصحبه مقوَّم" اهـ، وقال سهل التُّستَري
: " أصول مذهبنا- يعني الصوفية- ثلاثة: الاقتداء بالنبي
في الأخلاق والأفعال، والاكل من الحلال، وإخلاص النيّة في جميع الأفعال" اهـ، وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي
: " ليس هذا الطريق بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخَالة"،وإنما هو بالصبر على الأوامر واليقين في الهداية قال تعالى:
وَجَعَلْنَامِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّاصَبَرُواوَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ( سـورة السجدة/٢٤) اهـ. وقال سيدنا الامام الكبير احمد الرفاعي
للقطب ابي اسحاق ابراهيم الاعزب
:"ما أخذ جدك طريقًا لله إلا اتباع رسول الله
، فان من صحت صحبته مع سرِّ رسول الله
اتبع ءادابه وأخلاقه وشريعته وسنته، ومن سقط من هذه الوجوه فقد سلك سبيل الهالكين" اهـ، وقال أيضًا: "واعلم ان كل طريقة تخالف الشريعة فهي زندقة" اهـ، وقال
: "الصوفي هو الفقيه العامل بعلمه " .
وقد حكى العارف بالله الشعراني في مقدمة كتابه الطبقات إجماع القوم على انه لا يصلح للتصدر في طريق الصوفية إلا من تبحر في علم الشريعة وعلم منطوقها ومفهومها وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها، وتبحر في لغة العرب حتى عرف مَجازاتها واستِعاراتِها وغير ذلك.
والحكمة في هذا الاجماع الذي حكاه الشعراني ظاهرةٌ لان الشخص إذا تصدَّرَ للمشيخة والإرشاد اتخذه المريدون قدوة لهم ومرجعًا يرجعون اليه في مسائل دينهم، فإذا لم يكن متقنًا لعلم الشرع متبحرًا فيه قد يضل المريدين بفتواه فيحل لهم الحرام ويحرم عليهم الحلال وهو لا يشعر، أيضا فان أغلب البدع القبيحة والخرافات إنما دخلت في الطريق بسبب كثير من المشايخ الذين تصدروا بغير علم ونصبوا انفسهم للإرشاد من غير ان يكونوا مستحقين لهذا المنصب الجليل، ولذلك تجد الكثير من المنتسبين إلى التصوف اليوم والى طرق اهله قد أعماهم الجهل فيظنون أنهم بمجرد أخذهم لطريقة صوفية معيّنة يرتقون إلى اعالي الدرجات، وبمجرد قراءتهم للاوراد يصلون إلى مقام الإرشاد، وفي نفس الوقت يهملون تعلم العلوم الشرعية الضرورية وتطبيقها، فيتخبطون في الجهل والفساد وهم يحسبون انهم يحسنون صنعًا، ويدخلون في طريق القوم البدع الفاسدة والفتاوى الشاذة والأقوال الضالّة التي ما انزل الله بها من سلطان ويزعمون ان هذا من الأسرار التي لا يطلع عليها الا اهل الباطن ولا يفهمها اهل الشريعة الذين هم اهل الظاهر، وإذا قدّم لهم شخص نصيحة يقولون: انتم اهل الظاهر ونحن اهل الباطن لا تفهمون هذا، فلذلك سمّاهم اهل العلم والصوفية الصادقون بالمتصوفة أي أدعياء التصوف، ويكفي في الرد عليهم قول الإمام الرفاعي: "كل طريقة تخالف الشريعة فهي زندقة"، وقال
: "شيّدوا أركان هذه الطريقة المحمدية بإحياء السنة وإماتة البدعة" ا.هـ.، وقال: "كلّ الآداب منحصرة في متابعة النبي
قولا وفعلا وحالا وخلقًا، فالصوفي ءادابه تدل على مقامه، زِنوا أقواله وأفعاله وأحواله وأخلاقه بميزان الشرع" ا.هـ.، وقال: "أيها الصوفي لم هذه البطالة؟ صِرّ صوفيا حتى نقول لك: أيها الصوفي " ا.هـ. وقال: "لا تقولوا كما يقول بعض المتصوفة: نحن اهل الباطن وهم اهل الظاهر، هذا الدين الجامع باطنه لبّ ظاهره، وظاهره ظرف باطنه لولا الظاهر لما بَطُن، لولا الظاهر لما كان الباطن ولما صح، القلب لا يقوم بلا جسد بل لولا الجسد لفسد، والقلب نور الجسد. هذا العلم الذي سمّاه بعضهم بعلم الباطن هو إصلاح القلب " ثم قال: "فإذا تعين لك ان الباطن لب الظاهر والظاهر ظرف الباطن ولا فرق بينهما ولا غنى لكليهما عن الآخر، فقل: نحن من اهل الظاهر وكانك قلت ومن اهل الباطن. أيُّ حالة باطنة للقوم لم يأمر ظاهر الشرع بعملها؟ أيُّ حالة ظاهرة لم يأمر ظاهر الشرع بإصلاح الباطن لها" .
فعلى ما ذكر يتبين ان كل بدعة تراها في الطرق السائرة فلك ان تعرض ما تراه وتسمعه فيها من البدع القولية أوالفعلية على قواعد الشرع فان لم توافقه فانبذها،قال السيد احمد الرفاعي: "كل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة، إذا رأيتم شخصًا تربع في الهواء فلا تلتفتوا اليه حتى تنظروا حاله عند الأمر والنهي " ا.هـ. ، أي يوزن أفعاله وأقواله بميزان
الشرع فان لم يوافقها فيترك، وقال رضي الله عنه: "سلّم للقوم أحوالهم ما لم يخالفوا الشرع، فان خالفوا الشرع فكن مع الشرع " .
تابع...